الثلاثاء، 5 يونيو 2018

الدعاء (فضله، وآدابه، وشيء من فقهه)


بسم الله الرحمن الرحيم

الدعاء (فضله، وآدابه، وشيء من فقهه)

أولًا: أهمية الدعاء وفضله:

1)    الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب
الدعاء من أنفع الأدوية في كلّ داء وكل بلاء؛ من: مرض أو ضعف في القوى والبدن، أو قلة ذات يد، أو من اُبتلي بعقوق من أولاده، أو أذى بعض المتسلطين عليه.
وهو عدوُّ البلاء، يدفعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل
وهو سلاح المؤمن؛ بمعنىّ أن الدعاء يدفع البلاء مثل ما يُدفع العدو بالسلاح، قال صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ تُنْصَرُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ)).

وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه. وقوة الدعاء من قوة التزام الداعي بشروط الدعاء وآدابه من اليقين، والثقة، وعدم استعجال الإجابة، والجزم في الدعاء، وغير ذلك.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفا.
الثالث: أن يتقاوما ويمنع كلُّ واحدٍ منهما صاحبه.
وفي صحيح الحاكم من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء)).
(مما نزل) برفعه.
(مما لم ينزل) بدفعه أو تحويله.
وهذا المعنى دلت عليه الآية الكريمة: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} هذا فيمن يُدعى من دون الله، وأما الله تعالى فمن دعاه ولجأ إليه، فالأمر بيده تبارك وتعالى.
وفي حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم –: ((لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ)).
هذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، ويعينك على فهم الحديث أن تعلم أن الدعاء من جملة القدر.
فليس معنى قوله: «لا يرد القدر إلا الدعاء" أن الدعاء يرد القدر المكتوب في اللوح المحفوظ، وإنما المعنى أنّ من القدر أن يكون كُتب بلاءٌ ينزِل، وكُتب أنه يُكشَف بالدعاء، فيكون المعنى أنّ الله عزّ وجلّ قدّر السببَ والمسبَّب.
فأفاد الحديث أنّ الدعاء يردُّ القدر، وهذا فيه الحث العظيم على الدعاء؛ ولهذا فإنّ من الأخطاء دعوة منتشرة في بعض الأماكن قولهم: "اللهم إنا لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألك اللطف فيه" هذا الدعاء غير صحيح، بل يُسأل الله سبحانه وتعالى ردّ القضاء، والدعاء يُردُّ القضاء، ويُسأل تبارك وتعالى كما جاء في الدعاء المأثور: ((أن تجعل كلَّ قضاء قضيته لي خيرًا)).

2)    أنّ الله تعالى يحبّ الملحّين في الدعاء
الإلحاح في الدعاء من أنفع الأدوية.
وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)).
يدلّ الحديث على حبّ الله تعالى للدعاء وللداعين، فإنّ الله يحبّ الملحين في الدعاء، والدّاعون قريبون منه جلّ في علاه.
قال الناظم:
والله يغضب إن تركتَ سؤاله                  وبني آدم حين يُسألُ يغضبُ
والإلحاح: التكرار ودوام السؤال، لا ينقطع من الطلب {ادعوا ربَّكم تضرّعًا} التضرّع هو الإلحاح.
والدعاء فيه افتقار وذلّ وانكسار بين يدي الله، يمد يديه على هيئة الضعيف المسكين المحتاج المفتقر، ملحًا على ربّه، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا)).
فهذا حديث عظيم في بيان مكانه الدعاء وفضله وكرمه على الله تعالى، ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء))، وفي الحديث: ((الدعاء هو العبادة)).

3)    الدعاء نجاةٌ للداعي
في كتاب الزهد للإمام أحمد عن قتادة قال: قال مورِّق: "ما وجدت للمؤمن مثلًا إلا رجل في البحر على خشبة، فهو يدعو: يا رب، يا رب، لعلّ الله عزّ وجلّ أن ينجيَه.
لو تأملت الآن في أمواج الفتن التي تموج في الناس، وتصرفهم عن الحق وتوقعهم في الهلكة، وتدفعهم إلى الباطل، أمواج كثيرة جدًا متلاطمة، أمواج الشبهات والشهوات ومضلات الفتن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من الفتن)) قال الصحابة رضي الله عنهم: "نعوذ بالله من الفتن".
هذه الأمواج المهلكة النجاة منها بالتعوذ، بالدعاء، باللجو إلى الله، وأن يكون المرء دائمًا يدعو ربّه ويسأله الثبات والنجاة من الشرور والمهلكات، والله تعالى لا يخيب من دعاه، ولا يردّ من ناداه، { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

ثانيًا: من آفات الدعاء: العجلة
من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرًا أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي)).
وفي صحيح مسلم عنه: ((لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)).
وقوله: (ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم) هذا من استعجال الشرّ، قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}، دعاء الإنسان على نفسه أو قرابته أو ولده، هذا من العجلة المذمومة. لكن من رحمة الله تعالى أنّ هذا لا يُستجاب.

ثالثًا- آداب الدعاء وشروطه:
أ)حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب
ب‌)  أن يصادفَ وقتًا من أوقات الإجابة الستة، وهي:
1-              الثلث الأخير من الليل
2-              عند الأذان، أي: بعده مباشرة. أما عند الأذان فالسنّة أن يقول مثل ما يقول المؤذّن، وبعد الفراغ أول ما يبدأ يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل له الوسيلة.
3-              بين الأذان والإقامة
4-              أدبار الصلوات المكتوبات، أي آخر الصلاة قبل التسليم، لقوله في الحديث: ((ثمّ ليتخير من المسألة ما شاء)).
5-              عند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة من ذلك اليوم
6-              وآخر ساعة بعد العصر.
وفي تحديد الساعة التي يُجاب فيها الدعاء يوم الجمعة خلاف مشهور، وأصح ما قيل فيها هما هاتان الساعتان التي أشار إليهما المؤلف.
ج‌)   أن يصادفَ خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الربّ، وذلًا له، وتضرّعًا، ورقة. وهذه المعاني مهمة جدًا في الدعاء.
د‌)      أن يستقبل الداعي القبلة.هذا من آداب الدعاء، لكن ليس من شروطه.
هـ) أن يكون الداعي على طهارة.
و‌)     أن يرفع يديه إلى الله. وهي هيئة ذلّ وافتقار، وهي من أسباب الإجابة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا)).
ز‌)      أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه.
ح‌)   ثم يثنى بالصلاة على محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ط‌)   ثم يقدِّم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار. فالتوبة فلاح، وموجب لحصول الخيرات.
ي‌)   ثم يدخل على الله، ويُلِحُّ عليه في المسألة، ويتملقه (أي يتضرع إليه) ويدعوه رغبة ورهبة، كما قال تعالى: {ويدعوننا رغبًا ورهبًا}.
ك‌)    أن يتوسَّل إلى الله بأسمائه وصفاته وتوحيده.
وهذا يكثر في أدعية القرآن والسنّة، وهي أعظم الوسائل، قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}، وقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، ويضمّن كل دعوة ما يناسبها من الأسماء.
ل‌)    أن يقدِّم بين يدي دعائه صدقة، فإن هذا الدعاء لا يكاد يردُّ أبدًا
ولا أعلم حديثا خاصًا في هذا، ولكن جاء في حديث الولي المشهور: ((ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل)) ومنها الصدقة، حتى قال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" الثمرة: إجابة الدعاء، وليس المعنى أنه يخرج صدقة قبل الدعاء، وإنما المعنى أن يكون صاحب صدقة.
م‌)      ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.
فمنها:
*   ما في السنن (وفي) صحيح ابن حبان من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال: لقد سأل الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب وفي لفظ: لقد سألت الله باسمه الأعظم)).
*   وفي السنن وصحيح ابن حبان أيضا من حديث أنس بن مالك ((أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا ورجل يصلي، ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.))أخرج الحديثين أحمد في مسنده.
*   وفي جامع الترمذي، من حديث أسماء بنت يزيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} [سورة البقرة: 163] ، وفاتحة آل عمران {الم - الله لا إله إلا هو الحي القيوم})) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
*   وفي مسند أحمد وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك وربيعة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام)) - يعني: تعلقوا بها والزموا وداوموا عليها. والمقصود أن يجعلها وسيلة بين حاجته ودعوته.
*   وفيه أيضا من حديث أنس بن مالك، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)). وجميع أسماء الله ترجع إلى هذين الاسمين.
*   وفي صحيح الحاكم من حديث أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسم الله الأعظم في ثلاث سور من القرآن: البقرة، وآل عمران، وطه، قال القاسم: فالتمستها فإذا هي {الحي القيوم}.
*   وفي جامع الترمذي وصحيح الحاكم من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت " {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} إنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)) قال الترمذي: حديث صحيح.
*   وفي الصحيحين من حديث ابن عباس ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرض، ورب العرش الكريم)). وهذا كلّه توسل إليه جلّ وعلا بأسمائه وصفاته وتوحيده.
*   وفي مسند أحمد من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا، فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها)).
ومعنى (أن يتعلمها) أي:
-       يحفظها
-       ويفهم معانيها ومدلولاتها
-       ويستحضر هذه المعاني عندما يقولها
وهذه الدعوة انتظمت أمورًا أربعة بها الفرج من الهموم:
الأول: التوحيد، في قوله: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك".
الثاني: الإيمان بالقضاء والقدر، في قوله: "ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك".
الثالث: معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العظيمة والتوسل بها، "أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك".
الرابع: العناية بالقرآن، "أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي".
ولهذا، أيستقيم أن يدعو المرء بهذا الدعاء ثم يهجر القرآن؟! لن يكون القرآن ربيعًا لقلب المرء إذا كان هاجرًا له، لذلك تحصل أخطاء في الأدعية يترتب عليها عدم ترتب آثار الدعاء.

رابعًا- تنبيهات في الدعاء
كثيرًا ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه -كعفة عن فاحشة أو بر بوالدين أو إعطاء حقوق أو صنائع معروف- جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرًا لحسنته، أو صادف وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته، فيظن الظان أن السرَّ في لفظ ذلك الدعاء فيأخذه مجردًا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي، وهذا كما إذا استعمل رجل دواءً نافعًا في الوقت الذي ينبغي استعماله على الوجه الذي ينبغي، فانتفع به، فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب، كان غالطًا، وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس.
ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيُجاب، فيظن الجاهل أن السرَّ للقبر، ولم يعلم أن السرَّ للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحب إلى الله.
لذلك كثير من الناس يتعلقون تعلقات باطلة تُبنى على ظنون كاذبة لا أصل لها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في (اقتضاء الصراط المستقيم): "ومن هذا الباب: من قد يدعو دعاءً يعتدي فيه، إما بطلب ما لا يصلح، أو بالدعاء الذي فيه معصية الله، شرك أو غيره، فإذا حصل بعض غرضه؛ ظنّ أن ذلك دليل على أن عمله صالح، بمنزلة من أُملي له، وأُمد بالمال والبنين، يظنُّ أن ذلك مسارعة له في الخيرات".
هذه تنبيهات في الدعاء لئلا يُغتر بألفاظ ولا أحوال ولا صفات ولا أفعال معينة.
والخلاصة: أنّ المعوَّل عليه في الدعاء: استقامته وصحته وموافقته للمشروع، وضوابط الشريعة.

خامسًا- في تحقق أثر الدعاء أو تخلف الأثر
الأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه، لا بحدِّه فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود؛ حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإن كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة، لم يحصل الأثر.
يعني أن الدعاء في وجود عوائده وثمراته راجع إلى قوّة الدعاء، والدعاء يكتسب القوة من استيفاء شروطه وآدابه في الكتاب والسنّة.
الأمور التي تُكسب الدعاء قوة، وتجعله أقرب إلى الإجابة:
1)    أن يكون الدعاء ثابتًا صحيحًا مأثورًا. وهو معنى: (كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به).
2)    أن يكون الداعي قويًا، لاستيفائه شروط الدعاء وضوابطه وآدابه. وهو معنى: (والساعد ساعد قوي).
3)    عدم وجود مانع من الإجابة، وهو معنى: (والمانع مفقود).
النتيجة: (حصلت به النكاية في العدو) = تحقق أثر الدعاء.
أسباب تخلّف أثر الدعاء:
1)    ضعف الدعاء في نفسه، بأن يكون دعاءً لا يحبه الله، لما فيه من العدوان.
2)    ضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرِّخْو جدًا، فإن السّهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا.
3)    حصول مانع من الإجابة؛ من: أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو، وغلبتها عليها.
كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه)).
فهذا دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها.
كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((يا أيها الناس، إن الله طيب، لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51] وقال: {ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟)).
الحاصل: أن الدعاء يحتاج إلى البرّ، فإذا وُجد البرُّ مع الدعاء نفع النفع العظيم.

سادسًا: بين الدعاء والقدر
هاهنا سؤال مشهور وهو:
أنّ المدعو به إن كان قد قُدِّر لم يكن بَدٌّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدعُ، وإن لم يكن قد قُدِّر لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله. فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء وقالت: لا فائدة فيه.
وهذا السؤال فيه خلل، وهو مدخل من مداخل الشيطان المهلكة، لأن فيه تعطيلا لعبادة عظيمة هي أحبُّ العبادات إلى الله تعالى.
ودليل فساد هذا المذهب: تناقض أصحابه
فهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم، متناقضون فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب؛ فيقال لأحدهم:
إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلابد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل، وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل.
وإن كان الولد قدر لك فلابد منه، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأ، وإن لم يقدر لم يكن، فلا حاجة إلى التزويج والتسري، وهلم جرا.
فهل يقول هذا عاقل أو آدمي؟ بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
والصواب:
أنّ هذا المقدَّر قُدِّر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قُدِّر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب، وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما قُدِّر الشِّبَع والرّي بالأكل والشرب، وقُدِّر الولدُ بالوطء، وقُدِّر حصول الزرع بالبذر، وقُدِّر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قُدِّر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال.
وحينئذٍ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قُدِّر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب.
ولما كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم الأمة بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم.
وكان عمر - رضي الله عنه - يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنده به، وكان يقول لأصحابه: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء، وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا ألهمتم الدعاء، فإن الإجابة معه، وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه فقال:
لو لم تردْ نيلَ ما أرجو وأطلبه ... من جود كفّيْك ما عودتني الطَّلَبا
فمن أُلهم الدعاء فقد أريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: {ادعوني أستجب لكم} وقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)).
وهذا يدلُّ على أن رضاه في سؤاله وطاعته، وإذا رضي الربُّ تبارك وتعالى فكلُّ خيرٍ في رضاه، كما أنّ كلَّ بلاءٍ ومصيبة في غضبه ومعصيته.
فإذا رأى المرء نفسه منشرحة بالدعاء، فهذا من أمارات الخير ودلائله، وإذا حُرم الدعاء حُرم الخير.
 


المرجع: ملخص من كتاب "الداء والدواء" لابن القيم، من ص14 وما بعدها، مع شرح الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله.
سلسلة الدروس  http://www.al-badr.net/sub/376/?q=&page