الجمعة، 28 يونيو 2013

المشورة

بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان كائن اجتماعي؛ فلا يمكنه كما هو معلوم أن يعيش وحده. وكما هو محتاج إلى أفراد يتآلف معهم؛ فهو بحاجة ماسة إلى عقول تفكّر معه، في جميع أموره. لأنه مهما بلغ عقله ودهاؤه لا يمكنه الاستغناء عن رأي غيره ومشورته. ومن هنا كان للمشورةِ المكانةُ العظيمةُ في حياة الأفراد والمجتمعات. فهي المفتاح للوصول إلى عقول الآخرين، والاستنارة بما لديهم من الآراء والخبرات. وما أقرب مَن يقلل من شأن المشورة ويستقل برأيه من الوقوع في الزلل والخطأ! وقد قيل: "مَن استغنى بعقله زلّ"، بل قد يدنيه ذلك من الوقوع في المخاطر، وقد قال عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه-: "خاطر مَن استغنى برأيه".
وحقيقة المشورة: طلب الرأي. وهي مأخوذة من الإشارة، يقال: أَشارَ عليه بالرَّأْيِ وأَشار يُشِير، إِذا ما وَجَّه الرَّأْيَ، وفلان خَيِّرٌ شَيِّرٌ، أَي يصلُح لِلْمُشاورَة.
وللمشورة في الدين الإسلامي مكانة عظيمة، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر نبيه -عليه الصلاة والسلام- بها، في قوله تعالى:     (آل عمران: 159)، فإذا كان الله يأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلاً وأغزرهم علمًا، وأفضلهم رأيًا-بمشاورة أصحابه فكيف بغيره؟! ومما يدل –أيضًا- على مكانتها في الإسلام أن الله -عزّ وجلّ- أثنى على المؤمنين باتصافهم بها، فقال تعالى:     (الشورى: 38). فكل ذلك يدلّ على أنّ المشورة من الأمور التي يحبّها الله ويرضاها.
ومن فوائد المشورة أنها تنور العقول، وتزيدها وعيًا، وقد قيل: "إذا شاورتَ العاقلَ صار عقلُه كلُّه لك"، ومن فوائدها أيضًا: ما تنتجه من رأي صائب؛ فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوبه فليس بملوم. وقد قيل: "من بدأ بالاستخارة وثنّى بالاستشارة فحقيق أن لا يخيبَ رأيه"، وقال أعرابي: "لا مال أوفر من العقل, ولا فقر أعظم من الجهل, ولا ظهر أقوى من المشورة". ولا يُقتصر في المشورة أن تكون من المساوي للمساوي، بل تكون أيضًا من الأعلى للأدنى؛ فإنّ مَن له الأمر على الناس إذا جمع أهل الرأي والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبدٍّ برأيه عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع؛ فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته؛ لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه، وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.
ولما كان المستشير إنما يطلب رأيَ المستشار ليزداد به عقلاً وبصيرة في اتخاذ قراره؛ كان من الواجب عقلاً ألا يقصد باستشارته إلا ذوي العقل والحكمة، والحزم واليقظة، والنصح والأمانة، قال أبو الفتح البُستيّ (ت400):
لا تستشرْ غيرَ ندبٍ حازمٍ يقظٍ
قد استوى فيه إسرارٌ وإعـلانُ
فللتدابيرِ فرســانٌ إذا ركـبوا
فيها أبرّوا كما للحربِ فرسـانُ
وإنّ استشارةَ أصحاب العقول السليمة الناضجة سببٌ في نجاحِ سعي المرء، وبلوغِه الظفر، مع ما يجب عليه من الاستعانة بالله وإخلاص النية عند الاستشارة، وذلك بأن يلتمس بها النصح والرأي النافع وإرادة المصلحة، لا سوى ذلك من المقاصد التي تذهب ببركة المشورة.
كما أنّ على المستشار أن يبذل جُهده في النصح، ولا يتوانى في إبداء رأيه على الوجه الذي يرضي ربّه، ويوافق مصلحة المستشير في دنياه وآخرته، وإن لم يفعل كان مضيعًا للأمانة التي تحملها بقبوله لتقديم هذه الاستشارة، ففي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي الهيثم: "هل لك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فأتنا. فأُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اخترْ منهما، قال: يا رسول الله اخترْ لي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنّ المستشارَ مؤتمنٌ، خذ هذا، فإنّي رأيته يصلي، واستوصِ به خيرًا..." رواه الترمذي  وصححه الألباني.
        وهكذا تبين لنا أهمية المشورة، وحقيقتها، ومكانتها في الدين الإسلامي، وما لها من فوائد، وعرفنا كذلك الصفات التي يجب التماسها في المستشار، وما الواجب عليه. وحقيق بالعاقل أن يعتني بشأن المشورة، ويحرص على العمل بها، ويتحلى بآدابها، مستعينًا بالله في جميع أموره؛ حتى يظفرَ بما يؤمّلُه من العواقب الحسنة، وينجوَ بإذن الله من العواقب السّيئة. والتوفيق بالله تعالى.

16/ 1/ 1434هـ