الجمعة، 13 سبتمبر 2013

وما قَدَرُوا الله حقَّ قَدْرِه


وما قَدَرُوا الله حقَّ قَدْرِه
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67)، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: 91).
قال ابن القيم –رحمه الله تعالى-:
فما قَدَرَ مَن هذا شأنه وعظمته حقّ قَدْرِهِ:
·       مَن أشرك معه فى عبادته مَن ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه؛ فما قَدَرَ القويَّ العزيز حقَّ قدره مَن أشرك معه الضعيف الذليل.
·       وكذلك ما قَدَره حقَّ قَدْرِه مَن قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل كتابًا، بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه، وتضييعهم وتركهم سدي، وخلقهم باطلاً عبثًا.
·       وكذا ما قَدَرَه حقَّ قَدْرِه مَن نفى حقائق أسمائه الحسنى، وصفاته العلى؛ فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره وعلوه فوق خلقه وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد، ونفى عموم قدرته، وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم؛ فأخرجها عن قدرته ومشيئته، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الربّ؛ فيكون فى ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون. فتعالى عن قَولة أشباه المجوس علوًا كبيرًا.
·       وكذلك ما قَدَرَه حقَّ قَدْرِه مَن قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله عبده، ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيه البتة، بل هو نفس فعل الربّ جلّ جلاله، فيعاقب عبده على فعله، فهو سبحانه الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق للمخلوق، وإذا كان من المستقر في الفطر والعقول إن السيد لو أكره عبده على فعل أو ألجأه إليه ثم عاقبه لكان قبيحًا، فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير ولا هو واقع بإرادته ولا فعله البتة ثم يعاقب عليه؟!! تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وقول هؤلاء شرٌّ من أشباه قول المجوس. والطائفتان ما قدر الله حق قدره.
·       وكذلك ما قَدَرَه حقَّ قَدْرِه مَن لم يصنه عن نتن ولا حش ولا مكان يُرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان، وصانه عن عرشه أن يكون مستويًا عليه إليه، تصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وتعرج الملائكة والروح وتنزل من عنده، وتدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم تعرج إليه، فصانه عن استوائه على سرير الملك، ثم جعله فى كل مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه.
·       وما قَدَرَ اللهَ حقَّ قَدْرِه مَن نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا من نفي حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا من نفى حقيقة فعله ولم يجعل له فعلاً اختياريا يقوم به، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه، فنفي حقيقة مجيئه وإتيانه واستوائه على عرشه وتكليمه موسى من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها، وزعموا أنهم بنفيها قد قدروه حق قدره.
·        وكذلك لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِه مَن جعل له صاحبة وولدًا، وجعله سبحانه يحلّ في جميع مخلوقاته، أو جعله عين هذا الوجود.
·       وكذلك لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِه مَن قال: إنه يجوز أن يعذب أولياءه ومَن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم, وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وأن كلَّ الأمرين بالنسبة إليه سواء، وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك، فمعناه للخبر، لا للمخالفة حكمته وعدله، وقد أنكر سبحانه فى كتابه على مَن جوّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به من أسوأ الأحكام. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 27 – 28)، وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 21-22)، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم: 35 – 36).
·       وكذلك لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِه مَن زعم أنه لا يحيى الموتى، ولا يبعث مَن في القبور، ولا يجمع الخلق ليوم يجازى المحسن فيه بإحسانه والمسيء فيه بإساءته، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه، ويكرم للمتحملين المشاق فى هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذى يختلفون فيه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
·       وكذلك لم يَقْدُرْه حقَّ قَدْرِه مَن هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة الله، فلله الفضلة من قلبه وعلمه وقوله وعمله وماله، وسواه المقدَّم في ذلك؛ لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه وهو فى قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، ويستخفي من الناس ولا يستخفي من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما عنده وما يقدر عليه، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام فى خدمة مَن يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة، وقد أفرغ له قلبه وجوارحه، وقدّمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام فى حق ربّه إن ساعد القدر قام قيامًا لايرضاه مخلوق من مخلوق مثله، وبذل له من ماله ما يستحي أن يواجه به مخلوق مثله، فهل قَدَرَ اللهَ حقَّ قَدْرِه مَن هذا وصفه؟! وهل قَدَرَه حقَّ قَدْرِه مَن شارك بينه وبين عدوه فى محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذلِّ والخضوع والخوف والرجاء؟! فلو جعل له من أقرب الخلق إليه شريكًا فى ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبًا على محض حقه واستهانة به وتشريكا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه، فكيف وإنما أشرك معه أبغض الخلق إليه وأهونهم عليه وأمقتهم عنده وهو عدوّه على الحقيقة؟! فإنه ما عُبد من دون الله إلا الشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (يس: 60-61) ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم للشيطان وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (سبأ: 40-41) فالشيطان يدعو المشركين إلى عبادته ويوهمهم أنه ملك، كذلك عباد الشمس والقمر والكواكب يزعمون إنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج، ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان فيسجد لها الكفار فيقع سجودهم له، وكذلك عند غروبها، وكذلك مَن عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان، فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه، ورضيها لهم وأمرهم بها، وهذا هو الشيطان الرجيم، لعنة الله عليه، لا عبد الله ورسوله، فيدل هذا كله على قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}  فما عُبد أحد من بني آدم غير الله كائنًا مَن كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمتع العابد بالمعبود فى حصول أغراضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضاه الشيطان، ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 128) فهذه إشارة لطيفة إلى السرِّ الذى لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفره بغير التوبة منه، وإنه يوجب الخلود فى النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه أن يشرِّع لعباده إلهًا غيره؛ كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت  جلاله، وكيف يُظنّ بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والإجلال أن يأذن فى مشاركته فى ذلك، أو يرضي به؟! تعالى الله ذلك علوًا كبيرًا.

انتهى مختصرًا من "الجواب الكافي" لابن القيم، رحمه الله.