الأحد، 5 أكتوبر 2014

من عجيب كيد الشيطان

قال العلّامة ابنُ القيّم –رحمه الله-:
"فصل:
ومن كيده[1] العجيب: أنه يُشَامُّ النَّفْسَ، حتى يعلمَ أيَّ القوتَين تغلب عليها: قوةُ الإقدامِ والشجاعة، أم قوةُ الانكفافِ والإحجام والمهانة؟
فإن رأى الغالبَ على النفس المهانةَ والإحجام أخذ فى تثبيطه، وإضعافِ همّتِه وإرادتِه عن المأمور به، وثَقَّله عليه، وهوَّن عليه تركَه، حتى يترَكه جملة، أو يُقصِّر فيه ويتهاون به.
وإن رأى الغالبَ عليه قوةَ الإقدام وعلوّ الهِمّة أخذ يُقلِّل عنده المأمور به، ويوهِمًه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.
فيقصِّر بالأولُ ويتجاوزُ بالثاني، كما قال بعضُ السلف: "ما أَمَرَ اللهُ سبحانه بأمرٍ إلا وللشّيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلوّ. ولا يبالي بأيِّهما ظَفِر[2]".
وقد اقتطع أكثرُ الناس إلا أقلَّ القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدّي. والقليلُ منهم جدًّا الثابتُ على الصّراط الذى كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه.

·      فقومٌ قصَّر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة، وقومٌ تجاوز بهم إلى مجاوزة الحدّ بالوَسواس.

·      وقومٌ قصَّر بهم عن إخراج الواجب من المال، وقومٌ تجاوز بهم حتى أخرجوا جميعَ ما فى أيديهم، وقعدوا كَلّا على النّاس، مستشرفين إلى ما بأيديهم.

·      وقومٌ قصَّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس؛ حتى أضرّوا بأبدانهم وقلوبهم، وقومٌ تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة؛ فأضرّوا بقلوبهم وأبدانهم.

·      وكذلك قصَّر بقومٍ في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.

·      وقصَّر بقومٍ فى خلطة الناس حتى اعتزلوهم فى الطاعات، كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلّم العلم، وتجاوز بقومٍ حتى خالطوهم فى الظلم والمعاصي والآثام.

·      وقصَّر بقومٍ حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكلَه، وتجاوز بآخرين حتى جرّأهم على الدماء المعصومة.

·      وكذلك قصَّر بقومٍ حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.

·      وقصَّر بقومٍ حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بنى آدم، وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرامَ الخالص.

·      وقصَّر بآخرين حتى زين لهم ترك سنّة رسول الله –صلّى الله عليه وسلم- من النكاح؛ فرغبوا عنه بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.

·      وقصَّر بقومٍ حتى جَفَوا الشيوخَ من أهل الدّين والصّلاح، وأعرضوا عنهم، ولم يقوموا بحقّهم، وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله.

·      وكذلك قصَّر بقومٍ حتى منعهم قبولَ أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلالَ ما حلّلوه والحرامَ ما حرّموه، وقدّموا أقوالهم على سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة الصريحة.

·      وقصَّر بقومٍ حتى قالوا: إنّ الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده، ولا شاءها منهم، ولكنهم يعملونها بدون مشيئته وقدرته، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئًا البَتَّة، وإنما الله سبحانه هو فاعلُ تلك الأفعال حقيقة، فهي نفس فعله لا أفعالهم، والعبيد ليس لهم قدرةٌ ولا فعلٌ البَتَّة.

·      وقصَّر بقومٍ حتى قالوا: إنّ ربَّ العالمين ليس داخلًا فى خلقه ولا بائنًا عنهم، ولا هو فوقهم ولا تحتهم، ولا خلفهم ولا أمامهم، ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم، وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو في كلِّ مكان بذاته، كالهواء الذى هو داخلٌ في كلِّ مكان.

·      وقصِّر بقومٍ حتى قالوا: لم يتكلم الربُّ سبحانه بكلمة واحدة البَتَّة، وتجاوز بآخرين حتى قالوا:لم يزل أزلاً وأبدًا يقول: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[3]، ويقول لموسى: {اِذْهَبْ إِلَى فِرْعَونَ}[4]، فلا يزال هذا الخطاب قائمًا به ومسموعًا منه، كقيام صفة الحياة به.

·      وقصَّر بقومٍ حتى قالوا: إنّ الله سبحانه لا يُشفِّعُ أحدًا في أحدٍ البَتَّة، ولا يرحم أحدًا بشفاعة أحد، وتجاوز بآخرين حتى زعموا أنّ المخلوق يَشْفَعُ عنده بغير إذنه، كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم.

·      وقصَّر بقوٍم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة.

·      وقصَّر بقوم حتى نَفَوا حقائقَ أسماءِ الرّبِّ تعالى وصفاته وعطّلوه منها، وتجاوز بآخرين حتى شبّهوه بخلقه ومثّلوه بهم.

·      وقصَّر بقومٍ حتى عادوا أهلَ بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوهم، واستحلوا حرمتَهم، وتجاوز بقومٍ حتى ادّعَوا فيهم خصائصَ النُّبوة من العصمة وغيرها، وربما ادّعَوا فيهم الإلهية.

·      كذا قصَّر باليهود في المسيح حتى كذّبوه ورمَوه وأمَّه بما برّأهما الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابنَ الله، وجعلوه إلهًا يُعبد مع الله.

·      وقصَّر بقومٍ حتى نَفَوا الأسبابَ والقُوى والطَّبائع والغرائز، وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمرًا لازمًا لا يمكن تغييرُه ولا تبديلُه، وربما جعلها بعضُهم مستقلةً بالتأثير.

·      وقصَّر بقومٍ حتى تعبّدوا بالنَّجاسات، وهم النصارى وأشباههم، وتجاوز بقومٍ حتى أفضى بهم الوَسواسُ إلى الآصار والأغلال، وهم أشباه اليهود.

·      وقصَّر بقومٍ حتى تزيّنوا للنّاس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه، وتجاوز بقومٍ حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السَّيئة ما يُسْقِطون به جاهَهم عندهم، وسمَّوا أنفسَهم الـمَلامتية.

·      وقصَّر بقومٍ حتى أهملوا أعمالَ القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدُّوها فضلاً أو فضولاً، وتجاوز بآخرين حتى قَصَرُوا نظرَهم وعملَهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارفُ لا يُسْقِطُ وَارِدَهُ لِوِرْدِهِ.

وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا، لو تتبّعناه لبلغ مبلغًا كثيرًا، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة"[5] اهــ.



[1] أي: الشيطان.
[2] رواه الخطّابي في "العزلة" عن أبي سليمان عن إبراهيم العنبري، عن ابن أبي قُماش، عن ابن عائشة. ص237
[3] (ص: 75).
[4] (النّازعات: 17).
[5] "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" لمحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية (ت751هـ). تحقيق محمد عزير شمس، ومصطفى بن سعيد إيتيم. بإشراف الشيخ بكر أبو زيد. ط1- مجمع الفقه الإسلامي: جدة، 1432هــ. (1/ 202- 206).