الجمعة، 17 يوليو 2020

الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول


بسم الله الرحمن الرحيم

الدليلُ بالفعلِ أرشدُ من الدليل بالقول

قال ابنُ الجوزي (ت597هـ) -رحمه الله- في "صيد الخاطر" ص158 – 159:

"فصل: أنفعُ المشايخِ في صحبتِه العاملُ بعلمه

لقيتُ مشايخ، أحوالُهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعُهم لي في صحبته العاملَ منهم بعلمه، وإن كان غيرُه أعلمَ منه...


ولقيت عبد الوهاب الأنماطيَّ، فكان على قانون السَّلَف، لم تسمع في مجلسه غِيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق، بكى، واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السنِّ حينئذٍ- يعملُ بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافَهم في النقل.
ولقيتُ الشيخ أبا منصور الجَوَالِيْقِيَّ، فكان كثيرَ الصَّمت، شديدَ التحرّي فيما يقول، متقنًا، محقِّقًا، وربما سئل المسألة الظاهرة، التي يبادر بجوابها بعضُ غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقّن، وكان كثيرَ الصّوم والصّمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول"اهـ.

قلتُ:
حملني كلامُ ابن الجوزي -رحمه الله- هذا إلى الحديث عن الصديقة الغالية معلمتي سُكَينة الألباني -رحمها الله- فقد كانت من طالبات العلم العاملات به؛ تتمثل هديَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الأمور؛ دقيقها وجليلها.
ومما يحضرني في ذلك – في تحرّيها العملَ بالهدي النبوي- موقفٌ أحبّ أن أذكرَه على وجه الخصوص؛ لـما وجدتُ في كتاب "الدليل إلى كيفية تعليم القرآن الكريم" ما يؤيد ذلك؛ وهو مما سرّني جدًا أن يصدِّق الكتابُ غالبَ ظنّي:
كتبتُ في تدوينة سابقة أنّي كنت أسمع منها صوتًا خافتًا عندما نكون في الحافلة، وكنتُ أشعر أنها تقرأُ القرآن، لكن لم أسألها يومًا عن ذلك، ثم وقفتُ في كتاب "الدليل إلى كيفية تعليم القرآن الكريم" (3/ 440- 441) على قولهما في أمثلة اقتناص الدقائق المتفرّقة:

"ومن أمثلة هذه الدقائق:
الدقائق التي تنقضي خلال ركوب الحافلة أو السّيارة:
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسوةٌ حسنة، فقد بوّب الإمام البخاريُّ –(ت256هـ) رحمه الله- في "صحيحه": (باب القراءة على الدابّة)، وحدّث فيه بحديث عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه:

"رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة وهو يقرأُ على راحلته سورةَ الفتح".

وقال الحافظُ ابنُ حجر (ت852هـ) رحمه الله:
"قوله: (باب القراءة على الدّابّة) أي لراكبها، وكأنّه أشار إلى الرّدّ على مَن كَرِه ذلك، وقد نقله ابنُ أبي داود عن بعض السلف. وقال ابن بطّال:
إنما أراد بهذه الترجمة أنّ في القراءة على الدَّابّة سُنّة موجودة، وأصلّ هذه السنّة قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الآية (الزخرف: 13)"اهـ(1).

وكم من المواقف لها شاهدة على ما ذكرتُ! أسأل الله تعالى أن ينفعني بما تعلمتُ منها فقهًا وسلوكًا، وأن يغفر لها ويرحمها، ويتقبل منها أحسنَ ما عملت، ويتجاوز عنّا وعنها، وأن يلحقَها ووالديها بأوليائه المقرّبين؛ من النّبيّين والصدّيقين والشهداء والصّالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.

(1) "فتح الباري" (8/ 700). باختصار.