الخميس، 15 مايو 2014

لولا المشقة


من حكمة الله -سبحانه وتعالى- أنْ جَعَلَ لكلّ شيءٍ سببًا، وحثّ العباد على أن يسعوا في تحصيل الأسباب النافعة لهم في دنيهم ودنياهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[1]، وقال –صلى الله عليه وسلم-: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"[2]. وكلما كان المطلوب أعلى وأثمن منزلةً  استحق من الجهد المبذول فيه بحَسَبه. والغُنْم بالغُرْم.
قال الإمام الشافعي –رحمه الله-:
بقدر الكَدّ تُكتسب المعالي
ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كدٍ
أضاع العمرَ في طلب المحالِ
تروم العزَّ ثم تنام ليلاً؟!
يغوصُ البحرَ من طلب اللآلي
وقال أبو تمّام:
بَصُرْتَ بالرّاحة الكبرى فلم تَرَها
تُنالُ إلا على جسرٍ من التعب
وقال المتنبي:
لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهم
الجودُ يُفْقِرُ والإقدام قتّالُ
"قيل: إن الصاحب جمال الدين بن مطروح كتب لبعض الرؤساء رقعةً إلى صديق له يشفع فيها عنده. فكتب ذلك الرئيس: هذا الأمر عليَّ فيه مشقة، فكتب ابنُ مطروح في جوابه: لولا المشقة. فلما وقف عليها فهم الإشارة إلى قول المتنبي، وقضى الشغل على الفور. انتهى"[3].
وقال الطائي:
والحمد شَهْدٌ لا يرى مشتارُه
يجنيه إلا من نقيع الحَنظلِ
وقال بعض الأجواد: إنا لنجِد كما يجد البخلاء، ولكنّا نصبر ولا يصبرون[4].
ولأجل هذه القاعدة كان أحد أسباب مضاعفة الثواب القيام بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية، والمعارضات الخارجية، فكلما كانت المعارضات أقوى، والدواعي لها أكثر كان العمل أكمل، وأكثر مضاعفة.
والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[5]، فالعفو عن المسيء في نحو المال أو العرض أو الجراحات أو القصاص ثقيل على النفس لما فيها من حبٍّ للانتقام والتشفي، وربما زاد ذلك معارض خارجي، كحال من يصم العافي بالعجز والخور والذلة والمهانة، فإذا قاوم هذه المعارضات من نفسه ومن خارج نفسه كان حريًا بمضاعفة الثواب.
ومن الأدلة أيضًا ما جاء في حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرّباط"[6].
فالوضوء فضله عظيم، والآثار في ذلك كثيرة، ولكن فضله يعظم، وأجره يتضاعف إذا كان إسباغه على المكاره، فهنا قيام بالعمل مع المعارض النفسي، وهو المكاره كالبرد وغيره.
والخطا إلى المساجد لها فضلها، فخطوة ترفع درجة، وأخرى تحط خطيئة، ولكن الأجر يتضاعف بكثرة الخطا، فذلك دليل احتساب، ومحافظة على الصلاة في المسجد مع الجماعة، {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[7].
وانتظار الصلاة إلى الصلاة ثقيل على النفس، فإذا غالب نفسه ودافع ذلك المعارض كان ذلك سببًا في رفعة درجاته، وهكذا.
ومن الأدلة على نفس القاعدة قوله –صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"[8]."[9]، فأخبر –صلى الله عليه وسلم- أنه في آخر الزمان يقلّ الخير وأسبابه، ويكثر الشرّ وأسبابه، وأنه عند ذلك يكون المتمسك بالدّين من الناس أقلّ القليل، وهذا القليل في حالة شدة، ومشقة عظيمة، كحالة القابض على الجمر، من قوة المعارضة، وكثرة الفتن المضلة: فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات، وانصراف الخلق إلى الدنيا، وانهماكهم فيها ظاهرًا وباطنًا، وضعف الإيمان، وشدة التفرد، لقلة المعين والمساعد. ولكنّ المتمسك بدينه القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أهل البصيرة واليقين، وأهل الإيمان المتين -من أفضل الخلق، وأرفعهم عند الله درجة، وأعظمهم عنده قدرًا"[10].
ولابن الجوزي –رحمه الله- كلمةٌ بليغةٌ في هذا المقام، يقول فيها:  
"فصل: ثمن العلياء
تأملت عجبًا، وهو أن كلَّ شيءٍ نفيسٍ خطيرٍ يطول طريقُه ويكثر التعبُ في تحصيله.
فإنّ العلمَ لما كان أشرفَ الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة. حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر، لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس.
ونحو هذا تحصيل المال، فإنه يحتاج إلى المخاطرات والأسفار والتعب الكثير.
وكذلك نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب، وربما آل إلى الفقر.
وكذلك الشجاعة، فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس. قال الشاعر:
لولا المشقةُ ساد الناس كلهم
الجودُ يُفْقِرُ والإقدام قتّالُ
ومن هذا الفن تحصي الثواب في الآخرة؛ فإنه يزيد على قوة الاجتهاد والتعبد، أو على قدر وقع المبذول من المال في النفس، أو على قدر الصبر على فقد المحبوب، ومنع النفس من الجزع.
وكذلك الزهدُ يحتاج إلى صبرٍ عن الهوى.
والعفافُ لا يكون إلا بكف كف الشَّرَه.
ولولا ما عانى يوسف -عليه السلام- ما قيل له: (أيها الصديق)
ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعِها، فهم يبالغون في كلِّ علمٍ، ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة. فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيّات نائبة، وهم لها سابقون.
وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم؛ فهم يحتقرونها مع التمام، ويعتذرون من التقصير.
ومنهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشّكر على التوفيق لذلك، ومنهم من لا يرى ما عمل أصلاً؛ لأنه يرى نفسه وعمله لسيده!
وبالعكس من المذكور عن أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشَّرَه والشهوات...
فالموفق مَن تَلمّح قِصَرَ الموسم المعمول فيه، وامتدادَ زمان الجزاء الذي لا آخر له انتهب حتى اللحظة، وزاحم كل فضيلة، فإنها إذا فاتت فلا وجه لاستدراكها.
أو ليس في الحديث يقال للرجل: "اقرأ وارقَ فمنزلك عند آخر آية تقرؤها"[11].
فلو أنّ الفكر عمل في هذا حقَّ العمل حفظ القرآن عاجلاً"[12].



[1] (الملك: 15).
[2] "صحيح مسلم" (كتاب القدر/ باب الإيمان بالقدر والإذعان له/ 2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] "ثمرات الأوراق" للحموي. (المكتبة الشاملة).
[4] "زهر الآداب وثمر الألباب". (المكتبة الشاملة).
[5] (الشورى: 40).
[6] "صحيح مسلم" (كتاب الطهارة/ باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره/ 251) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] (البقرة: 45).
[8] رواه الترمذي (كتاب الفتن/ باب (73) / 2260). من حديث أنس رضي الله عنه. وقال الألباني: صحيح.
[9] شرح رسالة "الأسباب والأعمال التي يضاعف بها الثواب" للعلامة السّعدي. شرح الدكتور محمد بن إبراهيم الحمد. ط1- دار ابن خزيمة: الرياض، 1426هـ. ص121 – 125 (باختصار).
[10] "بهجة قلوب الأبرار" للعلامة السعدي ط1- دارة الهداة: جدة، 1424هـ. ص257
[11] الحديث أورده المنذري في "الترغيب والترهيب" ولفظه: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها" وقال الألباني: حسن صحيح، "صحيح الترغيب والترهيب" (1426). (المكتبة الشاملة).
[12] "صيد الخاطر" لابن الجوزي (المكتبة الشاملة) (باختصار).