الجمعة، 1 أغسطس 2014

تفسير سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
أولاً- تسميتها
من أسمائها:
·      الفاتحة، قال –صلى الله عليه وسلم-: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»[1]. وسُمّيت بذلك لأنها فاتحة الكتاب خطًا؛ حيث افتتح الصحابة بها كتابة المصحف الإمام، ولأنه بها تُفتح القراءة في الصلوات.
·      أمّ القرآن، لقوله –صلى الله عليه وسلم-: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بأمّ القرآن»[2]. وسُمّيت بذلك لأنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم وغير ذلك، والمرجع للشيء يُسمّى أمًا. قال ابن جرير: والعرب تسمي كلّ جامع أمر أو مقدّم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أمّ الرأس، ويسمّون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أمًا.
قال الحَسَن البصريّ –رحمه الله-: «أنزل الله -عزّ وجلّ- مائة وأربعة كتب من السماء، أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصَّل، ثم أودع علوم المفصَّل فاتحة الكتاب، فمن عَلِمَ تفسيرَها كان كمن عَلِمَ تفسيرَ جميعِ كتبِ الله المنزلة»[3].
قال ابن القيّم –رحمه الله-: "اعلم أنّ هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتمّ اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمّن؛ فاشتملت على التعريف بالمعبود -تبارك وتعالى- بثلاثة أسماء، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها، وهي الله والربّ والرحمن... وتضمنت إثبات المعاد وجزاء العباد بأعمالهم، حسنها وسيئها... وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة".
·      السبع المثاني، والقرآن العظيم، كما في الحديث  عن أبي سعيد بن المعلّى –رضي الله عنه- قال: "كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}[4]؟ ثم قال لي: لأعلمنّك سورةً هي أعظم السّور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت: ألم تقل: لأعلمنّك سورةً هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[5] الفاتحة، قال: هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذى أوتيته"[6]. وسُمّيت بالسّبع المثاني لأنها تُثنّى في الصلاة، فتُقرأ في كلّ ركعة.
ثانيًا- فضلها
·      هي أعظم سورة في القرآن، كما سبق في حديث أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه.
·      من فضائلها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، فلا تصح الصلاة إلا بها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْىَ خِدَاجٌ" ثَلاَثًا، غَيْرُ تَمَامٍ. فَقِيلَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ. فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِى نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. فإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ). قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»[7].
·      ومن مميزاتها أنها رقية، كما في حديث عن أبي سعيد-رضي الله عنه- قال: "انطلق نفرٌ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيّدُ ذلك الحي، فسعوا له بكل شيءٍ لا ينفعه شيءٌ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعله أن يكون عند بعضهم شيءٍ، فأتوهم قالوا: يأيها الرهط، إنّ سيّدنا لُدِغ، وسعينا له بكل شيءٍ لا ينفعه، فهل عند أحدٍ منكم من شيءٍ؟ فقال بعضهم: نعم، والله، إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[8] سورة الفاتحة، فكأنما نُشِط من عِقالٍ، فانطلق يمشي وما به قَلَبةٌ، قال: فأوفوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟! ثم قال: قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم"[9].
وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة، فصاروا يختمون بها الدعاء، ويبتدئون بها الخُطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات، وهذا غلط، تجده مثلاً إذا دعا، ثم دعا قال لمن حوله: "الفاتحة"، يعني اقرؤوا الفاتحة؛ وبعض الناس يبتدئ بها في خطبه، أو في أحواله . وهذا أيضاً غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والاتِّباع.
ثالثًا- نوعها وعدد آياتها
الأقرب أنها مكية، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ}[10]، وهي سبع آيات بلا خلاف.
مسألة/ هل البسملة آية من الفاتحة أو لا؟
في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويُقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة؛ لأنها من الفاتحة؛ ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله؛ وهذا القول هو الحق، كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
رابعًا- تفسير معاني السّورة
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الحمد وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل؛ فله الحمد الكامل بجميع الوجوه. ولا بد من قيد وهو المحبة، والتعظيم؛ قال أهل العلم: لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة، ولا تعظيم: لا يسمى حمدًا؛ وإنما يسمى مدحًا.
و"أل" في {الحمد} للاستغراق، أي استغراق جميع المحامد.
وقوله تعالى: {لله}: اللام للاختصاص، والاستحقاق.
و"الله" اسمَ ربنا عزّ وجلّ؛ لا يسمى به غيره؛ ومعناه: المألوه، أي المعبود حبًا وتعظيمًا. المستحق لإفراده بالعبادة، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: "ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين".
ومما جاء في فضل الحمد، ما روى جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"[11]. وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا رأى ما يُحبّ قال: الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كلّ حال"[12]. وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضلَ مما أَخَذَ"[13].
مسألة: الفرق بين الحمد والشكر؟
ذهب بعض العلماء إلى أنهما سواء، وهذا فيه نظر، والذي اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية،  والشكر لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجنان واللسان والأركان، كما قال الشاعر:
أفادتكم النّعماءُ مني ثلاثةً ... يدي ولساني والضمير المحجَّبا
ولكنهم  اختلفوا: أيهما أعمّ، الحمد أو الشكر؟ على قولين، والتحقيق أن بينهما عمومًا وخصوصًا، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه؛ لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية، تقول: حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه. وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول، والشكر أعم من حيث ما يقعان به، لأنه يكون بالقول والعمل والنية، كما تقدم، وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية، لا يقال: شكرته لفروسيته، وتقول: شكرته على كرمه وإحسانه إليّ. هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين، والله أعلم.
وقال أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري: الحمد نقيض الذم، تقول: حَمِدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدة، فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعمُّ من الشّكر. وقال في الشكر: هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف، يقال: شكرته، وشكرت له. وباللام أفصح. وأما المدح فهو أعم من الحمد؛ لأنه يكون للحي وللميت وللجماد -أيضًا-كما يُمدح الطعام والمال ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضًا فهو أعمّ.
وقوله تعالى: {ربّ العالمين} "الربّ" : هو من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالق، المالك لكلّ شيء، المدبّر لجميع الأمور. ويُطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرّف للإصلاح، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى، ولا يُستعمل الربّ لغير الله، بل بالإضافة، تقول: ربّ الدار، ربّ كذا، وأما الربّ فلا يقال إلا لله عزّ وجلّ.
و{العالمين}: قال العلماء: كل ما سوى الله فهو من العالَم.
قال القرطبي: وهذا هو الصحيح، إنه شامل لكلّ العالمين كقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}[14]، والعالَم مشتق من العلامة. وُصفوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كلّ شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق: على قدرته، وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته. كما قال ابن المعتز:
فيا عجبًا كيف يُعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ
تدلّ على أنه واحدُ
والمعنى أنه المربي جميع العالمين بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة، فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان:
1- تربية عامة، وهي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
2- تربية خاصة، وهي تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصّوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكلّ خير، والعصمة عن كلّ شرّ. ولعل هذا المعنى هو السِّرُّ في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الربّ. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
من فوائد الآية:
1.  إثبات الحمد الكامل لله عزّ وجلّ، وذلك من "أل" في قوله تعالى: {الحمد}؛ لأنها دالة على الاستغراق.
2.  ومنها: أن الله تعالى مستحق مختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أصابه ما يسرّه قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات"؛ وإذا أصابه خلاف ذلك قال: "الحمد لله على كل حال[15]" ...
3.  ومنها: تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية؛ وهذا إما لأن "الله" هو الاسم العَلَم الخاص به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
اعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم، يعلم به كل شيء، قدير، ذو قدرة يقدر على كلّ شيء.
فـ{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وَسِعت كلَّ شيء، وعَمَّتْ كلَّ حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها.
والفرق بينهما:
أنّ {الرّحمن} هو ذو الرحمة الواسعة؛ و{الرّحيم} هو ذو الرحمة الواصلة؛ فـ{الرّحمن} وصفه؛ و{الرّحيم} فعله؛ ولو أنه جيء بـ "الرحمن" وحده، أو بـ "الرحيم" وحده لشمل الوصف، والفعل؛ لكن إذا اقترنا فُسِّر {الرّحمن} بالوصف؛ و{الرّحيم} بالفعل.
ووصف نفسه تعالى بعد {ربّ العالمين} بأنه {الرّحمن الرّحيم} لأنه لما كان في اتصافه بـ{ربّ العالمين} ترهيب قرنه بـ{الله الرّحمن} لما تَضَمَّنَ من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه؛ فيكون أعون على طاعته وأمنه، كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}[16] وقال : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}[17]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد"[18].
من فوائد الآية:
1.  من فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين . {الرّحمن الرّحيم} لله عزّ وجلّ؛ وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، ومن الرحمة التي هي الفعل.
2.  ومنها: أن ربوبية الله عزّ وجلّ مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة؛ لأنه تعالى لما قال: {ربّ العالمين} كأن سائلاً يسأل: "ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ، وانتقام؛ أو ربوبية رحمة، وإنعام؟" قال تعالى: {الرّحمن الرّحيم}.
{مالك يوم الدّين} صفة لـ{الله} وهو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات.
و{يوم الدّين} هو يوم القيامة.
و"الدين" تارة يراد به الجزاء والحساب، كما في هذه الآية؛ وكما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}[19]، وقال: {أئنا لَمَدِينون}[20] أي مجزيون محاسبون؛ وتارة يراد به العمل، كما في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[21]، ويقال: "كما تدين تدان"، أي كما تعمل تُجازى.
يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازى فيه الخلائق؛ فلا مالك غيره في ذلك اليوم.
وفي قوله تعالى: {مالك} قراءة سبعية: {مَلِك}، و "المَلِك" أخص من "المالك". وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهي أن ملكه -جلّ وعلا- ملك حقيقي؛ لأن مِن الخلق مَن يكون مَلِكًا، ولكن ليس بمالك، يسمى ملكًا اسمًا وليس له من التدبير شيء؛ ومِن الناس مَن يكون مالكًا، ولا يكون ملكًا، كعامة الناس؛ ولكنّ الربَّ -عزّ وجلّ- مالكٌ ملِك.
من فوائد الآية:
1.  إثبات ملك الله عزّ وجلّ، وملكوته يوم الدين؛ لأن في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات، والملوك.
فإن قال قائل: أليس مالك يوم الدين، والدنيا؟
فالجواب: تخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عمّا عداه، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه ربّ العالمين، وذلك عامّ في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدّين؛ لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمامَ الظهور كمالُ ملكوته وملكه وسلطانه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق.  لأن الله تعالى ينادي: {لمن الملك اليوم}[22]، فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى: {لله الواحد القهّار}[23]. في الدنيا يظهر ملوك؛ بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم؛ فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك ربًا للسموات والأرض؛ يرون أن الحياة: أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وأن ربهم هو رئيسهم. أما في الآخرة فلا يدّعي أحدٌ هنالك شيئًا، ولا يتكلم أحدٌ إلا بإذنه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}[24]، وقال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا}[25]، وقال: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}[26]. حتى إنه يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابه، خائفون من عقابه، فلذلك خصه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
والمَلِك في الحقيقة هو الله عزّ وجلّ؛ قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ}[27]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إنّ أخنعَ اسمٍ عند الله رجلٌ يسمّى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله"[28]، وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟"[29]، وفي حديث آخر: "أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"[30]، وفي القرآن العظيم: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[31]، فأما تسمية غيره في الدنيا بمَلِك فعلى سبيل المجاز، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}[32]، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}[33]، {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}[34].
.2 إثبات البعث، والجزاء؛ لقوله تعالى: {مالِكِ يومِ الدّين}.
.3 حث الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون. وقد قال عمر -رضي الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}"[35].
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
{إيّاك} مفعول به مقدَّم؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. أي لا نعبد إلا إياك.
والعبادة في اللغة من الذلة، يقال: طريق معبّد وبعير معبّد أي مذلّل، وفي الشرع عبارة عمّا يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف. أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلاً لله عزّ وجلّ، يسجد على التراب؛ تمتلئ جبهته من التراب، كل هذا ذلاً لله؛ ولو أن إنساناً قال: "أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي" ما وافق المؤمن أبداً؛ لأن هذا الذل لله عزّ وجلّ وحده.
وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة.
وقد سمى الله رسوله بعبده في أشرف مقاماته فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}[36]، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}[37]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}[38]، فسماه عبدًا عند إنزاله عليه وقيامه في الدعوة وإسرائه به، وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين له، حيث يقول: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[39].
وإنما تكون العبادة عبادة، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقصودًا بها وجه الله، فبهذين الأمرين تكون عبادة.
والعبادة تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابدًا حقًا؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن عابدًا حقًا؛ العبد هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى: {وإيّاك نستعين} أي لا نستعين إلا إيّاك على العبادة، وغيرها. فذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى، فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي. وكُرّر (إيّاك) للاهتمام.
و"الاستعانة" طلب العون. وهي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
وقدم العبادة على الاستعانة، لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم. ومن باب تقديم العام على الخاص، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة، والاستعانة، أو التوكل في مواطن عدة في القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه. والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سرّ القرآن، وسرّها هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[40]، فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، والتفويض إلى الله عزّ وجلّ. وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[41]،{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا}[42]، {رَبَّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}[43]، وكذلك هذه الآية الكريمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وتحوّل الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسبة، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى؛ فلهذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وفي هذا دليل على أن أول السورة خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى، وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك؛ ولهذا لا تصح صلاة من لم يقل ذلك، وهو قادر عليه.
من فوائد الآية:
.1 إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: {إيّاك نعبد}؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول.
.2 إخلاص الاستعانة بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: {وإيّاك نستعين}، حيث قدّم المفعول.
فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[44] إثبات المعونة من غير الله عزّ وجلّ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِى دَابَّتِهِ، فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ"[45]؟
فالجواب: أن الاستعانة نوعان:
1- استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عزّ وجلّ، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا خاص بالله عزّ وجلّ
2- واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حياً قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}.
فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟
فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه!!! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الوليّ الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك.
فإن قال قائل: هل يجوز أن يستعين المخلوقَ فيما تجوز استعانته به؟
فالجواب: الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسَر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طُلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك.
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
لما تقدم الثناء على المسؤول، تبارك وتعالى، ناسب أن يعقب بالسؤال؛ كما قال: "فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل"، وهذا أكمل أحوال السائل، أن يمدح مسؤوله، ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: {اهدنا}، لأنه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد الله تعالى إليه لأنه الأكمل، وقد يكون السؤال بالإخبار عن حال السائل واحتياجه، كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[46]، وقد يتقدمه مع ذلك وصف المسؤول، كقول ذي النون: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[47]، وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول، كقول الشاعر:
أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليك المرءُ يومًا ... كفاه من تعرّضه الثناءُ
و{الصِّراط} فيه قراءتان: بالسين: {السراط}، وبالصاد الخالصة: {الصراط}.
والمراد بـ{الصراط المستقيم} الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه.
وذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:
أميرُ المؤمنين على صِراطٍ ... إذا اعوجَّ الموارِدُ مُسْتَقيمِ
والمراد هنا: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه الموصل إلى الله وإلى جنّته.
ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله وللرسول بمعرفة الحق والعمل به؛ فروي أنه كتاب الله، وقيل: هو الإسلام، وقيل: الحق، وقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده، وكل هذه الأقوال صحيحة، وهي متلازمة، فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر، فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، وهو كتاب الله وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضًا، ولله الحمد.
وفي الحديث عن النّواس بن سمعان، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضَرَبَ الله مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ! ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلاَ تَتَعَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ الإِسْلاَمُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ، وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ"[48].
والمراد بـ "الهداية" هداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فأنت بقولك: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} تسأل الله تعالى علمًا نافعًا، وعملاً صالحًا.
والمعنى أي دلنا وأرشدنا وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له مَنْ أنعمت عليه مِنْ عبادك، من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم؛ لأن مَن وفق لما وُفق له من أنعم الله عليهم مِن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقد وُفق للإسلام، وتصديق الرسل، والتمسك بالكتاب، والعمل بما أمره الله به، والانزجار عما زجره عنه، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهاج الخلفاء الأربعة، وكل عبد صالح، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
وذلك يشمل الهداية إلى الصراط: وهو لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، وهي تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علمًا وعملاً.
فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك.
فإن قيل: كيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها، وهو متصف بذلك؟ فهل  هذا من باب تحصيل الحاصل أم لا؟
فالجواب: أن لا، ولولا احتياجه ليلا ونهارًا إلى سؤال الهداية لما أرشده الله إلى ذلك؛ فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله؛ فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه، ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل وأطراف النهار، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ}[49] الآية، فقد أمر الذين آمنوا بالإيمان، وليس في ذلك تحصيل الحاصل؛ لأن المراد الثبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، والله أعلم.
وقال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[50]، وقد كان الصدِّيق رضي الله عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرًا[51]. فمعنى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} استمر بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره.
من فوائد الآية:
.1  لجوء الإنسان إلى الله عزّ وجلّ بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى: {إيّاك نعبد}؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى: {وإيّاك نستعين}؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}؛ لأن {الصراط المستقيم} هو الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
.2  بلاغة القرآن، حيث حذف حرف الجر من {اهدنا}؛ والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية: التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم، وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عزّ وجلّ قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ}[52]؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[53]، وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[54]، {فهديناهم} أي بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يُوفقوا.
3. أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج؛ فما كان موافقاً للحق فهو مستقيم، كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}[55]؛ وما كان مخالفاً له فهو معوج.
قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مفسِّر للصراط المستقيم. وهو عطف بيان. والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[56].
قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} بالجرّ على النعت، وقرئ بالنصب على الحال.
وفي قوله تعالى: {عَلَيْهم} قراءتان سبعيتان: إحداهما ضم الهاء؛ والثانية كسرها.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ولَا الضَّالِّينَ}
أي غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقتا اليهود والنصارى.
فالمغضوب عليهم هم اليهود، وكل من علم بالحق ولم يعمل به.
والضالّون هم النصارى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من عمل بغير الحق جاهلاً به.
و إنما جيء بــ"لا" لتأكيد النفي، لئلا يتوهم أنه معطوف على {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وللفرق بين الطريقتين، لتجتنب كل منهما؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم؛ ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لأن من علم وترك استحق الغضب، بخلاف من لم يعلم. والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه -لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه وهو اتباع الرسول الحق- ضلّوا.
وكلٌّ من اليهود والنصارى ضالٌّ مغضوبٌ عليه، لكن أخصّ أوصاف اليهود الغضب، كما قال فيهم: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}[57]، وأخص أوصاف النصارى الضلال، كما قال: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل}[58].
وبهذا جاءت الأحاديث والآثار. وذلك واضح بين فيما رواه الإمام أحمد عن عديّ بن حاتم –رضي الله عنه- قال: "جاءت خيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا عمتي وناسًا، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له، فقالت: يا رسول الله، ناء الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمُنّ علي مَنّ الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فرّ من الله ورسوله! قالت: فمنَّ علي، فلما رجع، ورجل إلى جنبه، ترى أنه عليّ، قال: سليه حِمْلانًا، فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه. فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: "يا عدي، ما أفرّك؟ أن يُقال: لا إله إلا الله؟! فهل من إله إلا الله؟! قال: ما أفرّك؟! أن يُقال: الله أكبر؟! فهل شيء أكبر من الله عزّ وجلّ؟! قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: "المغضوب عليهم اليهود، وإنّ الضالين النصارى"[59].
وشاهد هذا من القرآن قوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}[60]، وقال في المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[61]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[62].
وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}[63] الآية، وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره، كما قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}[64]. وقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[65]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم.
من فوائد الآيتين:
.1  ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}: وهذا مجمل؛ {صراط الذين أنعمت عليهم} وهذا مفصل؛ لأن الإجمال، ثم التفصيل فيه فائدة: فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل، والبيان؛ فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا: وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.
2. ومنها: إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله.
.3 ومنها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون؛ وقد سبق بيان هذه الأقسام.
وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سببُ خروجهم العناد هم المغضوب عليهم . وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق . وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة . أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً . كلهم مغضوب عليهم.
.4  بلاغة القرآن، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه.
.5  ومنها: أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه. بخلاف المخالف عن جهل.
فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة، يؤخذ من لفظ: {اللَّهِ} ومن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وقد دل على ذلك لفظ {الْحَمْدُ} كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وأن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثبات القدر، وأن العبد فاعل حقيقة، خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة واستعانة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالحمد لله ربّ العالمين.
فصل
يُستحبّ لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين. ومعناه: اللهم استجب. لحديث وائل بن حجر –رضي الله عنه- قال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، ومدّ بها صوته"[66]، وفي رواية: "رفع بها صوته"[67].
ويُستحبّ ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حقّ المصلي، وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا، وفي جميع الأحوال، لما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أمَّنَ الإمامُ فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه"[68]، وعنه أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السّماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذنبِه"[69]. وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكرت عنده اليهود، فقال: "إِنَّهُمْ لاَ يَحْسُدُونَا عَلَى شَيءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِى هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِى هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ: آمِينَ"[70].
وعلى كل حال السورة هذه عظيمة؛ ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بـكتاب: "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله.
المرجع: جمع وترتيب من:
v"تفسير القرآن العظيم" للحافاظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي رحمه الله
v"تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" للشيخ العلامة عبد الرحمن السّعدي رحمه الله
v"تفسير القرآن الكريم" لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
v"مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله.





[1]  "صحيح مسلم" (كتاب الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كلّ ركعة/ 394 ) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[2]  "صحيح مسلم" (كتاب الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كلّ ركعة/ 394 ) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[3]  رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي القاسم بن حبيب عن محمد بن صالح بن هانئ عن الحسين بن الفضل عن عفان بن مسلم، عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصريّ.
[4]  (الأنفال: 24).
[5]  (الفاتحة: 1).
[6]  "صحيح البخاري" (كتاب التفسير/ باب ما جاء في فاتحة الكتاب/ 4474) من حديث أبي سعيد بن المعّلى رضي الله عنه.
[7]  "صحيح مسلم" (كتاب الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة/ 395) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8]  (الفاتحة: 1).
[9]  "صحيح البخاري" (كتاب الإجارة/ باب ما يُعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب/ 2276) من حديث أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه.
[10]  (الحجر: 87).
[11]  رواه الترمذي (كتاب الدعوات/ باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة/ 3383) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم، وقد روى عليّ بن المديني وغير واحد عن موسى بن إبراهيم هذا الحديث". وقال الألباني: حسن.
[12]  رواه ابن ماجه (كتاب الأدب/ باب فضل الحامدين/ 3803) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الألباني: حسن.
[13]  رواه ابن ماجه (كتاب الأدب/ باب فضل الحامدين/ 3805) من حديث أنس رضي الله عنه. وقال الألباني: حسن.
[14] (الشعراء: 23-24)
[15]  رواه ابن ماجه (كتاب الأدب/ باب فضل الحامدين/ 3803) من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الألباني: حسن.
[16]  (الحجر: 49 – 50).
[17]  (غافر: 3).
[18]  "صحيح مسلم" (كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها تغلب غضبه/ 2755) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[19]  (النور: 25).
[20]  (الصافات: 53).
[21]  (الكافرون: 6).
[22]  (غافر: 16).
[23]  (غافر: 16).
[24]  (النبأ: 38).
[25]  (طه: 108).
[26]  (هود: 105).
[27]  (الحشر: 23).
[28]  متفق عليه، "صحيح البخاري" (كتاب الأدب/ باب أبغض الأسماء إلى الله/ 6206)، و"صحيح مسلم" (كتاب الآداب/ باب تحريم التسمي بملك الأملك أو بملك الملوك/ 2143) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[29]  متفق عليه، "صحيح البخاري" (كتاب التفسير/ باب قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}/ 4812)، و"صحيح مسلم" (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم/ باب صفة القيامة والجنّة والنار/ 2787) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[30]  "صحيح مسلم" (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم/ باب صفة القيامة والجنّة والنار/ 2788) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[31]  (غافر: 16).
[32]  (البقرة: 247).
[33]  (الكهف: 79).
[34]  (المائدة: 20).
[35]  (الحاقة: 18).
[36]  (الكهف: 1).
[37]  (الجن: 19).
[38]  (الإسراء: 1).
[39]  (الحجر: 97 – 99).
[40]  (الفاتحة: 5).
[41]  (هود: 123).
[42]  (الملك: 29).
[43]  (المزمل: 9).
[44]  (المائدة: 2).
[45]  متفق عليه، "صحيح البخاري" (كتاب الجهاد/ باب من أخذ بالرِّكاب ونحوه/ 2989)، "صحيح مسلم" (كتاب الزكاة/ باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف/ 1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[46]  (القصص: 24).
[47]  (الأنبياء: 87).
[48]  رواه الإمام أحمد في "مسنده". من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. وقال الألباني: صحيح، "صحيح الجامع" (3887).
[49]  (النساء: 136).
[50]  (آل عمران: 8).
[51]  رواه الإمام مالك في "الموطأ" (كتاب الصلاة/ باب القراءة في المغرب والعشاء/177 ) عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مولى سليمان بن عبد الملك، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ.
[52]  (البقرة: 185).
[53]  (البقرة: 2).
[54]  (فصلت: 17).
[55]  (الأنعام: 153).
[56]  (النساء: 69).
[57]  (المائدة: 60).
[58]  (المائدة: 77).
[59]  رواه الإمام أحمد في "مسنده" (19906، 19907) عن مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر عن شُعْبَةُ عن سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ عن عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ. وقال الشيخ عبد الكريم الخضير –حفظه الله-: التفسير المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- روي من طرق كثيرة، كلها لا تخلو من ضعف، لكن كثرتها تدل على أنّ لها أصلاً ومعناها صحيح بلا شك.
[60]  (البقرة: 90).
[61]  (المائدة: 60).
[62]  (المائدة: 78- 79).
[63]  (المجادلة: 14).
[64]  (الكهف: 17).
[65]  (الأعراف: 186).
[66]  رواه الترمذي (كتاب مواقيت الصلاة/ باب ما جاء في التأمين/ 248) من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه. وقال الألباني: صحيح.
[67]  رواه أبو داود (كتاب الصلاة/ باب التأمين وراء الإمام/ 923) من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه. وقال الألباني: صحيح.
[68]  متفق عليه، "صحيح البخاري" (كتاب الأذان/ باب جهر الإمام بالتأمين/ 780)، و"صحيح مسلم" (كتاب الصلاة/ باب التسميع والتحميد والتأمين/ 410) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[69]  متفق عليه، "صحيح البخاري" (كتاب الأذان/ باب فضل التأمين/ 781)، و"صحيح مسلم" (كتاب الصلاة/ باب التسميع والتحميد والتأمين/ 410) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[70]  رواه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عائشة رضي الله عنه. وقال الألباني: صحيح، "صحيح الترغيب والترهيب" (515).