الجمعة، 27 فبراير 2015

مقامُ العبودية يقتضي كراهةَ المدح

مقام العبودية يقتضي كراهة المدح
عن مطرف قال: قال أبي:
"انطلقتُ في وفد بني عامر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: أنت سيدنا، فقال: السيدُ الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلًا وأعظمنا طَوْلًا، فقال: قولوا بقولكم أو بعضِ قولكم ولا يستجرينّكم الشيطان"[1].
أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنّ مواجهة المادح للممدوح بمدحه –ولو بما فيه- من عمل الشيطان:
1- لما تفضي محبةُ المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد.
فإنّ العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غايةُ الذلّ في غاية المحبة.
·       وكمال الذلّ يقتضي: الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأنه لا يرى نفسه إلا مقام الذمّ لها، والمعاتبة لها في حقّ ربّه.
·       وكذلك الحبّ: لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإرادات. ومحبة المدح من العبد لنفسه يخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغرّه من نفسه فيكون آثمًا.
فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذلَّ لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت، فمتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد. وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه، والإعجاب بها وقع في أمر عظيم، ينافي العبودية الخاصة، كما في الحديث : "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذبتُه"[2]،  وفي الحديث : "لا يدخل الجنّةَ مَن كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من كِبْر"[3].
وهذه الآفة قد تكون محبة المدح سببًا لها وسلمًا إليها، والعُجْب يأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب.
2- وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن يُنزِّل الممدوح منزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرًا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه، حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أكمل الله له مقامَ العبودية صار يكره أن يُمدح؛ صيانة لهذا المقام. وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}[4] ورأو أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربةٌ من أفضل القربات، وحسنةٌ من أعظم الحسنات![5] .




[1] رواه أبو داود (35- كتاب الأدب/ 10- باب في كراهية التمادح/ 4806) وقال الألباني: صحيح.
[2] رواه أبو داود بنحوه (26- كتاب اللباس/ 29- باب ما جاء في الكِبْر/ 4090) وقال الألباني: صحيح.
[3] رواه مسلم (1- كتاب الإيمان/ 41- باب تحريم الكبر وبيانه/ 91).
[4] (البقرة: 59).
[5] فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد. لعبد الرحمن بن حسن. تحقيق: د. الوليد آل فريان. ط11- دار عالم الفوائد: بيروت، 1424هـ (1/ 837- 838).