بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وعلى
آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد
فهذا نقلٌ فرّغته من شرح كتاب "الشريعة"
للآجرّي، لفضيلة الدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفظهما الله. تضمّن
تنبيهًا مهمًّا في مسألة "هجر المبتدع". أسأل الله أن ينفعَ به، ويجزيَ شيخنا خيرَ الجزاء على نصحه وتبيينه.
كان تعليقه –حفظه الله- على قول المؤلّف محمد بن
الحسين الآجرّي –رحمه الله-:
"فإنْ عارضَهم إنسانٌ جهميٌّ، فقال: مخلوق، أو قال: القرآن
كلام الله ووقف، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال: هذا القرآن حكاية لما في اللوح
المحفوظ، فحكمه أن يُهجَرَ ولا يُكلَّمَ، ولا يُصلَّى خلفَه، ويُحذَّرَ منه".
تعليق شيخنا –حفظه الله-:
وسَبَقَ أن نقل –رحمه الله تعالى- عن الإمام أحمد
وغيره فيما يتعلق بالهجر، هجر المبتدعة، وأنّ هذا الهجر لهم له مقصد في الشرع، وهو:
1- زجر هؤلاء، وردعهم، وبيان
شناعة قولهم، وخطورته على الأمّة.
2- وأيضًا وقاية للناس، وصيانة لهم من
شرور هؤلاء المبتدعة الضلّال.
والهجر له أصله في هدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فهجر السلف لمن هجروه من أهل البدع
مبني على أصول شرعية مُتّبَعة، ولهذا لا ينكر الهجر على قواعده الصحيحة، وأصوله
المرعية، وفق هدي الشريعة ومقاصدها ومصالحها إلا مَن لم يفهم الهديَ المبارك، هدي
النبيِّ الكريم عليه الصلاة والسلام.
وأيضًا ينبغي أن يكون الهجر في حدود ما دلّت
عليه الشريعة، في قواعدها وأصولها، وأن يكون مبنيًا على جلب المصالح ودرء المفاسد،
لا أن يكون مبنيًا على حظوظ النفس ورغباتها أو التشفي أو نحو ذلك، بل يكون لمقصدٍ شرعي، وأن تكون المصلحة
منه مترجِّحة.
وهذا يرجع كما قال العلماء -رحمهم الله تعالى- إلى
حال الهاجر وأيضًا المهجور قوةً وضعفًا، والنظر في هذا الهجر: هل يحقِّق مصلحة أو
يحقِّق مضرة؟
أقول ذلك لأن بعض الناس قد يقرأ بعض هذه الآثار عن
السلف رحمهم الله تعالى، ويستعملها في غير مواضعها، يعني مثلًا الإمام أحمد مرّ
معنا عنه كلام قوي جدًا في الهجر، وتحقيق فعلي أيضًا للهجر، وجاء عنه أيضًا في
مقامات أخرى تألُّف لبعض الناس، فجاء منه هجرٌ، وجاء منه تألُّف، لكلِّ مقام مقال، ولكل حالة جواب
وطريقة، بحسب المصلحة، فهؤلاء أئمة أعلام، وما يفعلونه مبني على أصول
وقواعد. فأن يأتي شخصٌ ويقرأ -مثلاً- أثرًا واحدًا عن الإمام أحمد في الهجر والقوة
في الهجر، وينزّله على كل حال، ويجعله مع كلِّ أحد، حتى مع رفقائه وزملائه في بعض
الأخطاء اليسيرة، وتصبح المعاملة كلها هَجْرٌ في هَجْرٌ، وقطيعة وتدابر، هذا لم
يكن عليه السلف رحمهم الله، هذا يولّد شرًّا وفِتَنًا وأضرارًا.
ولهذا ينبغي أن تُفهَم الآثار عن السلف، ومن لم يحسن
فهم الآثار عنهم أنزلها في غير منازلها، ووضعها في غير محالِّها. ولهذا ينبغي أن يُستعان على فهم طريقة
السلف سواء في هذا الموضوع، في الآثار المروية عنهم، أو غيره من الموضوعات بالأئمة
الراسخين والعلماء الأكابر، يعني عندما تقرأ لابن تيمية وهو يفصّل منهج السلف رحمه الله تعالى، أو تقرأ لغيره من الأئمة الأعلام الكبار الراسخين؛ فإنهم
يعينونك ويفتحون لك –بإذن الله- من أبواب الفقه والفهم لأقاويل السلف والآثار
المروية عنهم ما تتحقق به المصلحة والفائدة ويندفع الشرّ. أما إذا كان الإنسان
يقرأ على حاله، وينزِّل بعض الآثار في غير منازلها وغير مواضعها، كأن يقول: "السلف
منهجم الهجر"، ثم يطبقه على حالات لم يفعلْها السّلف، لو قرأ الآثار التي
عنهم الأخرى في الباب لوجد أن الأمر فيه توازن، وفيه نظر للمصالح والمفاسد، وفيه
نظر لحال المهجور، فيه نظر لحال الهاجر، لها أصول ولها قواعد. والأئمة كما ذكرت
لكم- الراسخون ممن عرفوا منهج السلف ذكروا ذلك، حتى الإمام أحمد. يعني ابن تيمية -رحمه
الله تعالى- ذكر منهجه في الهجر، وأنه تارة يهجر وتارة يتألف، بحسب المصلحة، وبحسب
قواعد الشريعة وأصولها.
ومن باب الفائدة نستمع إلى نقلين مهمين أرجو أن
نتأملهما بتمعُّن، لإمامين جليلين، شُهد لهما بالإمامة في الدين، وهما:
1. شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله تعالى
2. وشيخ الإسلام
ابن باز رحمه الله تعالى
1- قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين، في قوّتهم
وضعفهم وقلّتهم وكثرتهم، فإن المقصودَ به زجرُ المهجور وتأديبُه، ورجوعُ العامة عن
مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة؛ بحيث يفضي هجرُه إلى ضعف الشرّ وخُفْيته
كان مشروعًا، وإن كان لا المهجورُ ولا غيرُه يرتدع بذلك بل يزيد الشرّ، والهاجر
ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يُشرع الهجر. بل يكون التأليف لبعض
الناس أنفع من الهجر".
تعليق شيخنا –حفظه الله-:
لو ذهب مثلًا طالب علم إلى قرية فيها بدع، بحاجة إلى
دعوته وأن يعلّمهم السنّة، ثم دخل عليهم في القرية وقال: هؤلاء أهل بدع، أهجرهم،
ولا أكلم أحدًا منهم!
مَن يعلمهم؟! ومَن يفقههم؟!
ولكن يُنظر في الأحوال والمصالح والمفاسد وقواعد
الشريعة.
"والهجر لبعض الناس أنفع
من التأليف ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يتألف قومًا ويهجر آخرين، كما أنّ الثلاثة الذين خُلِّفوا
كانوا خيرًا من أكثر المؤلَّفة قلوبُهم، لمّا كان أولئك كانوا سادةً مطاعين فى
عشائرهم فكانت المصلحة الدينية فى تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون
سواهم كثير، فكان فى هجرهم عزُّ الدين وتطهيرُهم من ذنوبهم. وهذا كما أنّ المشروعَ
في العدوّ القتالُ تارة، والمهادنةُ تارة، وأخذُ الجزية تارة، كلُّ ذلك بحسب الأحوال
والمصالح.
وجواب الأئمة، كأحمد وغيره فى هذا الباب مبنيٌ على
هذا الأصل".
تعليق شيخنا –حفظه الله-:
وذكر رحمه الله تعالى أن الإمام أحمد وغيره من الأئمة
لهم تفصيل في هذا الباب.
"ولهذا كان يفرِّق بين الأماكن التي كثرت فيها
البدع، كما كَثُرَ القَدَرُ في البصرة، والتنجيمُ بخراسان، والتشيّع بالكوفة، وبين
ما ليس كذلك، ويفرّق بين الأئمة المطاعين وغيرهم. وإذا عُرِف مقصودُ الشريعةِ سُلِكَ في
حصوله أوصلُ الطرقِ إليه".
تعليق شيخنا –حفظه الله-:
هذا يجمع كل التفاصيل.
"وإذا عُرِف هذا فالهجرة الشرعية هي من الأعمال
التى أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لابدّ أن تكون خالصةً لله، وأن تكون موافقةً لأمره، فتكون خالصةً لله صوابًا. فمَن هجر
لهوى نفسه أو هجر هجرًا غيرَ مأمورٍ به كان خارجًا عن هذا. وما أكثر ما تفعل النفوسُ ما تهواه
ظانةً أنّها تفعله طاعةً لله".
هذا تنبيه مهم جدًا، الهجر طاعة لله، أمرٌ أمر الله
به، ورسوله عليه الصلاة والسلام، فلا يُفعل إلا لوجه الله خالصًا، لا يكون رياءً
ولا تشفيًا، ولا لغير ذلك من الأغراض. وأيضًا يكون وفق السنّة، مراعًى فيه قواعدُ
الشريعةِ وضوابطُها. فلا بدَّ فيه من: الإخلاص، ولا بدَّ فيه من المتابعة.
2- قال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
"المؤمن ينظر في هذه المقامات بــــ:
·
نظر الإيمان
·
ونظر الشرع
·
ونظر التجرد من الهوى
فإذا كان هجرُه للمبتدع وبعدُه عنه لا يترتب عليه شرٌّ أعظم فإنّ هجرَه حقّ،
وأقلُّ أحواله أن يكون سنّةً، وهكذا مَن أعلن المعاصي وأظهرَها أقلُّ أحواله أنّ
هجرَه سنةٌ، فإن كان عدمُ الهجرِ أصلحَ لأنه يرى أنّ دعوةَ هؤلاء المبتدعين وإرشادَهم
إلى السنّة وتعليمَهم ما أوجب الله عليهم أنّ ذلك يؤثّرُ فيهم، وأنّه يفيدُهم؛ فلا
يعجل في الهَجْر، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هجر قومًا وترك آخرين، لم يهجرهم
مراعاةً للمصلحة الشرعية الإسلامية. فهجر كعبَ بنَ مالكٍ وصاحبَيه رضي الله عنهم، لمّا
تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، هجرهم خمسين ليلةً فتابوا فتاب الله عليهم. ولم يهجرْ
عبدَ الله بنَ أُبَيِّ بنِ سَلول وجماعةً من المتهمين بالنّفاق لأسباب شرعية اقتضت
ذلك. فالمؤمن ينظر في الأصلح" اهـ.
تعليق شيخنا –حفظه الله-:
نعم يعني هذان النقلان عن هذين الإمامين ابن باز رحمة
الله عليه وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه تلخِّصُ لك تلخيصًا دقيقًا
ومتينًا للغاية هذا الباب، وتبيّنُ لك أنّ قليلَ العلمِ إذا قَصَرَ الأمر
على فهمه، وأخذ أثرًا أو أثرين عن السّلف وقال: هذا منهج السّلف، ولم ينظر إلى
أقاويلهم الأخرى والنقولات الأخرى عنهم فإنه يزلّ في هذا الباب، وينسب إلى السّلف
من الفعال التي يقوم بها ما ليس من فعل السّلف رحمهم الله تعالى. ولهذا أنصح أنْ
يُتأمّل مرةً وأخرى في هذين النقلين عن ابن تيمية وابن باز رحمة الله عليهما، وعلى
أئمة المسلمين، ووفقنا أجمعين لحسن التأسي بهم، ولزوم الحقّ واتباعه.
رابط الدرس من موقع الشيخ حفظه الله
032 باب ذكر اللفظية، ومن زعم أن هذا القرآن
حكاية.. 24-07-1436
.